[align=right]
رواد المدارس الفنيه
مايكل أنجلو
Michelangelo
لا يقف مايكل انجلو عند حدود إطار حياته بين مولده على مشارف فلورنسه في 6 مارس سنة 1475 وموته بروما في 18 فبراير 1564 كما أنه يظل عند نطاق مكانه وعصره عصر النهضة الإيطالية وانما يتخطى حدود العصر والمكان محلقا في أفق الإنسانية كلها كرمز لعبقرية أبدعت في
أربعة فنون كبرى النحت والتصوير والعمارة والشعر وكمصورة من صراع الإنسان ضد قدرة ونزاعه الدائم معه وعذاب الروح الاسيرة وهي تتخبط في ظلام الدنيا كان ميكل انجلو في حياته التي أوشكت أن تكتمل قرنا من الزمان رمزا للصراع المتصل بين عبقرية بطولية وإدارة
صريعة الأسى والقلق والعذاب لقد ذاق غيره من أبطال الإنسانية مرارة هذا الصراع ولكنه انتصروا عليه أما هو فظل أسيرا له يستعذبه ويطوق نفسه بخناقة وكأنه لا يريد الخلاص منه كان دانتي مثله يعاني مأساة هذا الصراع ولكنه كان على بيتهوفن كان في قرارة نفسه ابن
المرح المسرة وإن لم يجد من حياته وظروفه صفوا يستبقى هذا المرح أما ميكل أنجلو فكان ابن الأسى والصراع كلماته تنطق به " إن راحتي في الأحزان وآلاف المسرات لا تساوي عاصفة من عواصف الروح ".
ولئن كان في نفسه تجذاب إلى الحزن والصراع والقلق محيط حياته كان أرضا خصبة لهذه النفس المعذبة العليلة صاغ هذا المحيط من الأحداث وأوجد من الأشخاص ما جعل هذه الصورة الحزينة المتكسرة تلقي كل أبعادها وعمقها فهو لم يكد يولد حتى فقد أمه في طفولته وعاش في
رعاية مرضعته زوجة قطاع أحجار كان ينتسب غليها أنها أرضعته مع لبنها موهبة النحت ووجد هواه من صباه مع الفن فالتحق بمرسم دومينكو جيرلاندايو أكبر أساتذة الرسم في فلورنسه ولكنه كره الرسم وتطلع إلى النحت لأنه يحقق أحلامه البطولية والتحق بمدرسة لورنزو دي
مديتشي بحدائق سان ماركو ولقي من الامير رجال الفكر والفن في ايطاليا تقديرا واهتماما فعاش في قلب النهضة الإيطالية وتتلمذ على برتولدو الذي تلقى تعاليمه دوناتللو في فن النحت وارتبط عن طريقة بالاقدمين . وفي جو آل مديتشي بين تعاليم أفلاطون ومثل الحياة
الفكرية في عصر النهضة كان العالم الوثني والديني المسيحية يتصارعان في نفسه ولكنه كن في هذه الفترة إغريقيا ينحت الساتير وابولون ومعركة القنطورس . ولا تلبث روحه المولعة بالعذاب أن تتطلع خلف أسوار حديقة سان ماركو بجوها الأفلاطوني إلى لهيب الصراع الديني
والاجتماعي الذي يشعله سافونارولا ويمضي ميكل انجلو تابعا له متأثرا به وإن لم يبد هذا الأثر في فنه خلال هذه الفترة ويشارك الفنان الشاب في هذه الأحداث وتلظى نفسه باللهيب الذي احرق جثمان سافونارولا في ثورة عارمة .... ويصوغ في هذه الفترة من أساه وحزنه
وهو شاب في الثالثة والعشرين ، تمثاله الشهير – الرحمة – القائم في كنسية القديس بطرس ممثلا حوار هذه النفس الدائم مع الأسى وينحت بعد تمثال الرحمة تمثاله العملاق – داود - فتلفت عبقريته البابا يوليوس الثاني الذي كان يحلم باستعادة روما مكانتها كمركز
لاشعاع ثقافي للعالم ، ويدعو البابا النحات الفلورنسي إلى روما ليقيم مقبرة له تكون صرحا مشيدا من الفن العظيم . وتتوافد على نفس الفنان أحلامه العملاقة التي ضاقت عنها أعمال شبابه فلا تمثاله هرقل بقوته الخارقة ولا تمثاله باكوس النشوان بالحياة ولا تماثيل
المذابح الكنائسية قد أرضت طموحه العارم وتطلعه وإنما هو يحلم بصرح كبير يحيط به أربعون تمثالا ملحمة من المرمر يسجل في مقاطعتها أعماقا من تأملاته وفكره ... وكان ميكل انجلو قد انتهى في هذه الأيام من مشروع وضع فيه قدراته كرسام حين عهد إليه مع ليوناردو
دافنشي .بتزيين إحدى قاعات فلورنسه . وانقسمت المدينة إلى معسكرين متحمسين لأكبر عبقريتين في عصر النهضة ، وخرجت رسوم مايكل انجلو للمشروع مفعمة بعمق التعبير الذي كان شاغل نفسه وبتجريد معنى الأحداث والمعارك وتحويلها إلى رموز ، في حين جاءت رسوم ليوناردو
تحليلية مسجلة لدقائق الحدث وكان هذان العملان مدرسة لعصرهما ، استوحى منهما رافاييل وبارتولوميو واندريادلسارتو من عباقرة شباب عصر النهضة . ولكن مايكل انجلو يرى في النحت هبة حياته ومن اجل هذا كانت حماسته لمشروع يوليوس الثاني الذي هجر من اجله فلورنسه إلى
روما ... وامتد هذا الحماس إلى البابا الكبير فارسل مايكل أنجلو إلى محاجر كرارا لينقي أحجار صرحه ... وكان الفنان سعيدا بهذا التكليف فهو يود أن يكون المبدع الكامل لعمله ، النحات والصانع والمهندس معا ولكن خط الصراع وهو خط من محاور حياته يضيق عليه الخناق
ويتحرك في شخص برامانتي المهندس وغيره من معاصريه فيقضي مايكل أنجلو عن البابا ويقف العمل في حمله الكبير تنتزعه منه نزوة من نزوات يوليوس الذي كلفه بتزيين سقف مصلى السستينا .. كن مايكل أنجلو يؤمن أن التصوير أدنى من النحت وأنه فن حسي لا يتسع لحمله
العميق ولكنه لم يستطع التحلل من تكليف البابا وأخذ يفكر في أسلوب جديد لعمله يتفق ونداء النحت في نفسه ... يقول مايكل أنجلو : " إن التصوير يرتفع من النحت والنحت يهبط حين يقترب من التصوير " . وقد أراد أن يترجم عبارته في الرموز التي أعدها ليخاطب بها
الناس من قبة السستينا رموز زادت على الثلاثمائة رسم ، ارتفع بها عن إتقان مدرسة فينسياز انشغالها بروعة الألوان . وعن التعبير عن المعنى المادي للاشياء المرئية في مدرسة فلورنسه ليكمل البذرة التي تنبت في فن جيوتو وأينعت في فن مازاشيو وليصور بأسلوب عملاق
قريب من النحت نشأة الدينا التي نبتت في فن الإنسان وخروج النور من الظلام والخطيئة والطوفان وجعل الجسم الإنساني مسرحا للتعبير عن أعمق المشاعر والأحاسيس وأودع التصوير رموزا عملاقة تحكي قصة الدنيا وأتم أنجلو سقف كنيسة السستينا حوالي سنة 1512 . وعاد مرة
أخرى إلى حلمه الكبيرصرح يوليوس الثاني ولكن البابا لا يلبث أن يموت وينتخب مكانه ليو العاشر ... ويأخذ مايكل انجلو في هذه المرة ينحت تمثاله العظيم – موسى –
وتماثيل العبيد فلا يلبث البابوات الجدد من آل مديتشي أن يستخدموه ليخلد مجد أسرتهم وكما دفعه يوليوس الثاني إلى التصوير دفعه آل مديتشي إلى فن العمارة إذ كلفه ليو العاشر بتصميم واجهة كنيسة سان لورنزو ومصلى آل مديتشي ويقبل مايكل أنجلو هذين التكليفين
بحماسة قائلا : " إن لدى إرادة تحقيق هذا العمل الذي سيكون مرآة العمارة والنحت لإيطاليا كلها " . كذلك كلفه البابا كليمنت السابع -أثناء هذا العمل – بتصميم مكتبته ، فيقبل على هذا العمل لأنه يرى العمارة قريبة من النحت ، وإدراكها يتطلب الإحساس بالشكل
والإنساني وتكوينه في الوقت نفسه كان ورثة يوليوس الثاني يهددونه لأنه لم يتم مشروعة وأحقاد معاصريه تطارده وأحاسيس نفسه المعذبة تنحت في أغوارها المخاوف والقلق فيرفض العيش الرغد في البيت الذي خصصه له كليمنت السابع ، ويهيم على وجه ويشارك في ثورة فلورنسه
ضد الإمبراطورية سنة 1527م وينغمس بنارها " فبدون النار لا يستطيع فنان أن يصهر الذهب وإن ينقيه " كما كان يقول .... وتنتهي عصور الاضطراب وتعود فلورنسا إلى الأباطرة ويقضى هو فترة مرض عضال يستأنف بعده نحت تماثيل آل مديتشي ثم يعاود مرة أخرى العمل في
مشروع يوليوس الثاني ولكنه يدعي إلى تصوير مجموعة يوم القيامة في قبة السستينا يكمل بها بداياته عن خلق الدنيا وسفر التكوين بعد أن جاوز الخمسين . .. ,اختتم هذا العمل الكبير سنة 1541م ، وألتقط انفاسه ليفرغ من صرح يوليوس الثاني الذي بدأه منذ خمسة وثلاثين
عاما ألهبته خلالها سياط تكليف البابوات والأباطرة وصرفته عن حلمه الأكبر ومرة أخرى تصرفه أوامر البابا بولس الثالث عن حلمه ليصور لوحتين من الفريسك في كنيسة بولين ، صور في إحدهما صلب القديس الشهيد .. وكانت الشيخوخة قد دبت معالمها في قواه وأجهدت كيانه
ولكنه أصر هذه المرة أن يتم صرح يوليوس ، أختصر الصرح الذي لم يكتمل والتماثيل الأربعين في مجموعة يقف وسطها تمثال موسى عملاقا من التعبير النحتى ينتصر على هزال فن النحت بعد الإغريق بل يتفوق على نحاتي اليونان القدماء الذين جعلوا محور تصوير جمال الجسد في
حين تخطى مايكل انجلو هذا المحور ليجعل من النحت ملحمة للتعبير عن أعماق الكون وفكرة الأبد . إن عيني لا ترى الأشياء الفانية ... ولو لم تكن روحي قد صيغت على غرار الخالق لقنعت بالجمال الخارجي الذي يبهر الأنظار ولكن هذا الجمال باطل فروحي إذن تتجه نحو
الجمال الكوني " . حول هذا المعنى دار حواره مع الأحجار وبهذه الروح حمل أدوات النحات والمصور معا في هذا الفنان الذي عاش شبابه بين مثل أفلاطون في حديقة سان ماركو كان يؤمن أيضا مع سقراط أن هدف الفن هو تمثيل الروح الداخلية للأشياء وكان ينتظر الطبيعة
نظرته إلى عدو يسجن الروح الإنسانية ويأسرها ومن أجل هذا كان يدرسها ليتخلص منها ويتفوق عليها وهو يرى " أن الحرارة لا يمكن إن تنفصل عن اللهب ، وأن الجمال لا ينفصم عن الأبدية " ومن أجل هذا كانت نفسيته مهيأة لتحول صوفى عميق فهذا الفنان الذي عاش في صراع
بين الوثنية والمسيحية يستقبل فترة من صفاء الروح والقلب يقفه عن كنيسة القديس بطرس التي عين مهندسا ومشرفا عليها سنة 1547م فيقبل هذه المهمة كواجب مقدس ويكتب لأبن أخيه يقول إن كثيرين يعتقدون أن الله اختارني لهذا المكان ... ولذا فإني لا أستطيع أن أتركه
.. إني أخدم هنا حبا في الله .. وأضع تحت قبة هذا المصلى كل آمالي وتطلعاتي " .
ويلاحقه في هذا المكان حسد معاصريه والروح العدائية التي بذروتها براماتي حوله .. ولكن مايكل انجلو يعترف برغم هذا العداء بعبقرية برامانتي كمهندس ، ويروي في التصميم الأول الذي كان قد أعده للكنيسة " صراحة في التعبير ووضاء وحرية من يبعد عنها فإنما يبعد
عن الحقيقة " . لقد كان نايكل انجلو ينشد في هذه المرحلة صفاء الروح وسلامها ولكن الأحزان تزحف إلى نفسه لدق كان يقول دائما : " أن صديق الوحدة " فلما أطلت على حياته الماركيزة بسكارا فيتوريا كولونا أرسلت في نفسه مزاجا من الحب والمسرة والأشجان لقد
راعه جمالها الروحي وهبة الحياة السامية في نفسها ... كانت محبة وشاعرة ومنبعا من الصفاء وفي نفسها جمال عصر النهضة وما شعه من فكر وأحلام وتطلع ثقافي . وكان لقاؤهما معا كل أحد في كنيسة سان سلفاسترو أروع ما جادت به الدنيا عليه من هبات .. أراد أن
يصورها وينحت لحبها التماثيل ولكن هبة السماء في ملامحها استعصت عليه فاستيقظت ملكاته القديمة كشاعر تغنى في شبابه وسكبه بين رسومه وأوراقه وراح يكتب لها الغنائيات من أجل حبهما العنيف .
كانت فيتوريا روحا من القداسة فتحت لنفسه عالم الصفاء الديني وكانت مثله حزينة الروح محلقة في غياهب فكرة الموت ، تتغلب على أساها الداخلي وخيانة زوجها لها بالتطلع إلى الله والاقتراب من روح هذا الفنان التعيس ، وفي ظلالها أتم أروع أعماله : يوم القيامة :
- لوحات كنسية بولين أعمال كنيسة القديس بطرس – وكان هي تمضي نحو الخمسين في حين كان هو شيخا قد تخطى الستين ودار حبهما حول الدين والفن وكل ما في الحياة من روح نبيل وأرادت فيتوريا إن تمنح حياته العاصفة بعض الهدوء والراحة وعاشت قريبة منه في روما ولكن
الموت عاجلها وضرب سحابة من الأحزان حول حياته حين رأى ملامحها الأثرية تنطفئ منها الحياة ، وانطلقت صرخة من أعماقه : كيف يموت مل هذا النبل وسمو الروح والفكر ! ؟ وفي غمرة هذا الأسى كتب بكائياته يصورها فيها كمطرقة النحات تبعث م المادة أنبل الأفكار ويسجل
انتصار الحب على الموت قائلا : " هل يستطيع الموت أن يزهو اليوم بأنه اطفأ شمس الشموس ؟ ! إن الحب قد انتصر وها هي ذي تحيا به على الأرض وفي السماء بين القديسين " . وتأبى الاحزان تأتي فرادى فيموت بعد فيتوريا صديقه الحميم ومساعدة أوربينو الذي عمل معه في
صرح يوليوس الثاني . وعند موته أرسل هذه الصيحة إلى أبن أخيه : أمس في المساء مات أوربينو ... لقد تركني آسفا ضائعا حتى ليبدو لي أن أموت معه من أجل حبي له ... لقد كان رجلا عظيما وفيا ...منذ ارتحل زاولتني رغبة العيش وفارقتني السكينة ". وصهرت هذه
الأحزان روحه وسكنت نفسه هذه التعبيرات الدرامية الجبارة التي غزت هواء الفن في روما وأرسلت عواصفها في أناقة فن البندقية فبعث في أعمال تينتوريتو قبسا من وهج مايكل انجلو ، خرج بالتصوير عن إطاره التقليدي هدأت هذه الروح العاصفة التي صيرت فن النحت رموزا
عملاقة جياشة بالعواطف التي مهدت الطريق لعبقريته رودان لتستقبل مرحلة من الأسى الدرامي الحزين كان تمثال الرحمة الشهير باسم بيتا روندانيني ختاما لها هذا التمثال الذي صاغه مايكل انجلو مرثيه لحياته وأراده أن يكون شاهدا على قبره إنه يمثل موضوعه الذي
عالجه في مراحل متعددة منذ شبابه ... المسيح المسجى والأم الثكلى الصورة التقليدية التي سجلها في تمثال كنيسة القديس بطرس تصبح هنا عمودا من الأسى الإنساني الحزين ، وأنينا قدسيا يكاد يهمس بروح الفنان وصراع حياته ومقاطع النحت يهدأ فيها الصخب كختام رائع
لسيمفونة عميقة النغمات . . إن هذا التمثال خلاصة حياة الفنان وخلاصة حياة الإنسان وهو أثره الأخير الذي قد تكون في كلمات احتضاره إشارة له : " إنني استشعر الأسى لأنني أموت قبل إن أقدم كل شي من أجل سلام نفسي ولأنني أموت عندما بدأت أتهجى فني " ... كان
هذا التمثال علامة طريق نحو الفن الحديث في انتقاله من التمثيل إلى التعبير من الجمال الحسي إلى الجمال النفسي ... لم يكن مايكل أنجلو أعظم من أنجبتهم فلورنسه ولم يكن ممثلا لروح إيطاليا المتحفزة المتوثبة وإنما هو من أروع عبقريات الدنيا عبقرية لم تكتف
بحورها العاتي مع الصخر بل مضى حوارها إلى أساليب عدة من التعبير الإنساني وخلف هذا الحوار فنا ذاتيا ليس امتدادا لمدرسة معينة وليس فاتحة لمذهب يعقبه وإنما فيض حياته وعبقريته سيظل يعيش باسمه وحده ويذكرنا بكلماته الأخيرة : " الفن والموت لا يلتقيان معا
" ......
المرجع : محيط الفنون – الفنون التشكيلية
منقول - المدرس
توجد هناك رواااابط للموضوع - حذفتها لوجود صور مخله للادب
[/align]
Bookmarks